تحت سماء نيويورك كل شيء ممكن حتى الأوهام
لم يكن يخطر في بال جميل ملاعب يوماً أن عالمه اليومي الذي أنشأه بالحب والسجيّة الطليقة وحَفرَ تفاصيله على مهجة القلب في كتابه "قريباً من الوطن"، سوف يعاود ظهوره ليدخل في نسيج أعماله في فن الغرافيك، التي نفّذها خلال سنوات الدراسة في معهد برات في نيويورك، وأن حكاياته التي جزّ عشبها وأنبت زهورها ستعود وتطفو من جديد على سطوح غائرة وبارزة، بِصُوَرِها وكائناتها وعناصرها، كي تعكس تجليات يومياته بحلوها ومرّها "بعيداً من الوطن".
في تلك المرحلة (1984- 1987) كان جميل يواجه صدمة الحداثة النيويوركية بالعودة إلى ما يشبه براءة مفردات الحياة القروية التي اعتاد أن يجسّدها في أعماله من خلال موتيفات الطيور والأشجار والحدائق والنساء والزخارف. لذلك نجد في محفوراته عالمين متناقضين ينازعان بعضهما بعضاً في الاستيلاء على فضاء العين، ربما ليس على نحو صراع الشرق والغرب، بل بما يشبه رحلة بول غوغان الى ما وراء البحار لاستلهام طبيعة الشعوب البدائية والغموض السحري للحضارات القديمة في مواجهة زيف الحياة الباريسية المتمدنة وهمومها وشجونها. ولكن قلق جميل لا يعدو كونه غريباً يفتش عن نفسه، بين أسلوبه المعتاد على التلقائية- الفطرية من جهة ومؤثرات مدرسة نيويورك التي أسست لفنون ما بعد الحداثة من جهة أخرى.
لعل السر ايضاً يكمن في فن الغرافيك نفسه، الذي لطالما كان الميدان الذي يحلّق فيه جميل ملاعب، لاسيما فيما يخص الحفر على الخشب وكيفية تسليمه زمام الأمر لبداهته في تقسيم العالم إلى حقول أفقية مثل أرض خصبة مهيأة للحرث، أو بطريقة عمودية شبيهة بالشلالات الهابطة من أعلى قمة في المخيلة. هكذا تتراءى الناطحات الشاهقة المتعامدة على الآفاق الوهمية لجسور نيويورك التي تربط بين ضفتي الحقيقة واستعاراتها الشعرية وأوهامها وسحاباتها الرمادية التي تفيض بعبارات البوح العاطفي وتزدحم بالصور والتفاصيل لكأنها في سباقٍ مع الزمن.
كان لجميل ملاعب رجعة أخرى إلى نيويورك في عام 2015 ولكن هذه المرة بشَعرٍ أشيب وتجربة عميقة. إذ جاءها فاتحاً واستاذاً لمواده وتقنياته، فأنجز خلال إقامته فيها مجموعة من أعمال الغواش عبارة عن مناظر بانورامية التقطها لنيويورك غالباً من نيوجرسي وبروكلين، لا تختلف جوهرياً عن طريقته في إخراج مناظره اللبنانية بسواحلها وشطآنها، إلا باختلاف الموضوعات. تحت سماء نيويورك كل شيء يبدو ممكناً حتى الأوهام. نيويورك هي عالمٌ من الأشياء بل هي أشياءُ العالم.
-مهـى سـلطان